فصل: ذكر عزل ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولاية عمّيه سعيد ونصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عزل ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولاية عمّيه سعيد ونصر

في هذه السنة في ربيع الأوّل عُزل ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حمدان عن الموصل ووليها عمّاه سعيد ونصر ابنا حمدان ووليَ ناصر الدولة ديار ربيعة ونَصِيبين وسِنجار والخابور ورأس عين ومعها من ديار بكر ميّافَارقين وأرزن ضمن ذلك بمال مبلغه معلوم فسار إليها ووصل سعيد إلى الموصل في ربيع الآخر‏.‏

  ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان بن الحسن

و في هذه السنة عُزل الوزير أبو عليّ محمّد بن مقلة من وزارة الخليفة‏.‏

وكان سبب عزله أنّ المقتدر كان يتّهمه بالميل إلى مؤنس المظفَّر وكان المقتدر مستوحشًا من مؤنس ويُظهر له الجميل فاتّفق أنّ مؤنسًا خرج إلى أوانا وعُكبرا فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى فقُبض عليه‏.‏

وكان بين محمّد بن ياقوت وبين ابن مقلة عداوة فأنفذ إلى داره بعد أن قبض عليه وأحرقها ليلًا‏.‏

وأراد المقتدر أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبدالله وكان مؤنس قد عاد فأنفذ إلى المقتدر مع عليّ بن عيسى يسأل أن يُعاد ابن مقلة فلم يجب المقتدر إلى ذلك وأراد قتل ابن مقلة فردّه عن ذلك فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين فتركه واستوزر سليمان بن الحسن منتصف جمادى الأولى وأمر المقتدر بالله عليَّ بن عيسى بالاطلاّع على الدواوين وأن لا ينفرد سليمان عنه بشيء وصودر أبو عليّ بن مقلة بمائتَي ألف دينار وكانت مدّة وزارته سنتَين وأربعة أشهر وثلاثة أيّام‏.‏

  ذكر القبض على أولاد البريديّ

كان أولاد البريديّ وهم أبو عبدالله وهم أبو عبدالله وأبو يوسف وأبو الحسين قد ضمنوا الأهواز كما تقدّم فلمّا عُزل الوزير ابن مقلة كتب المقتدر بخطّ يده إلى أحمد بن نصر القشوريّ الحاجب يأمره بالقبض عليهم ففعل وأودعهم عنده في داره‏.‏

ففي بعض الأيّام سمع ضجّة عظيمة وأصواتًا هائلة فسأل‏:‏ ما الخبر فقيل‏:‏ إنّ الوزير قد كتب بإطلاق بني البريديّ وأنفذ إليه أبو عبدالله كتابًا مزوّرًا يأمره فيه بإطلاقهم وإعادتهم إلى أعمالهم فقال لهم أحمد‏:‏ هذا كتاب الخليفة بخطّه يقول فيه‏:‏ لا تطلقهم حتّى يأتيك كتاب آخر بخطيّ‏.‏

ثمّ ظهر أنّ الكتاب مزوَّر ثمّ أنفذ المقتدر فاستحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار وكان لا يطمع فيها منهم وإنّما طلب منهم هذا القدر ليجيبوا إلى بعضه فأجابوا إليه جميعه ليتخلّصوا ويعودوا إلى عملهم‏.‏

  ذكر خروج صالح والأغرّ

و في هذه السنة في جمادى الأولى خرج خارجيٌّ من بجيلة من أهل البوازيج اسمه صالح بن محمود وعبر إلى البريّة واجتمع إليه جماعة من بني مالك وسار إلى سِنجار فأخذ من أهلها مالًا فلقيه قوافل فأخذ عُشرها وخطب بسنجار فذكر بأمر الله وحذّر وأطال في هذا ثمّ قال‏:‏ نتولّى الشيخَيْن ونبرأ من الخبيثَيْن ولا نرى المسح على الخفّيْن‏.‏

وسار منها إلى الشجاجية من أرض الموصل فطالب أهلَها وأهل أعمال الفَرَج بالعُشر وأقام أيّامًا وانحدر إلى الحديثة تحت الموصل فطالب المسمين بزكاة أموالهم والنصارى بجزية رؤوسهم فجرى بينهم حرب فقُتل من أصحابه جماعة ومنعوه من دخولها فأحرق لهم ستّ عُروب وعبر إلى الجانب الغربيّ وأسر أهلُ الحديثة ابنًا لصالح اسمه محمّد فأخذه نصر بن حمدان بن حمدون وهو الأمير بالموصل فأدخله إليها ثمّ سار صالح إلى السنّ فصالحه أهلها على مال أخذه منهم وانصرف إلى البوازيج وسار منها إلى تلْ خوسا قرية من أعمال الموصل عند الزاب الأعلى وكاتب أهل الموصل في أمر ولده وتهدّدهم أن لم يردّوه إليه ثمّ رحل إلى السلاميّة فسار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من هذه السنة ففارقها صالح إلى البوازيج فطلبه نصر فأدركه بها فحاربه حربًا شديدة قُتل فيها من رجال صالح نحو مائة رجل وقُتل من أصحاب نصر جماعة وأُسر صالح ومعه ابنان له وأُدخلوا إلى الموصل وحُملوا إلى بغداد فأُدخلوا مشهورين‏.‏

وفيها في شعبان خرد بأرض الموصل خارجيٌّ اسمه الأغر بن مطرة الثعلبيُّ وكان يذكر أنّه من ولد عتّاب بن كلثوم التغلبي أخي عمرو بن كلثوم الشاعر وكان خروجه بنواحي رأس العين وقصد كفَر توثا وقد اجتمع معه نحو ألفَيْ رجل فدخلها ونهبها وقتل فيها‏.‏

وسار إلى نَصِيبين فنزل بالقرب منها فخرج إليه وإليها ومعه جمع من الجند ومن العامّة فقاتلوه فقتل الشاريُّ منهم مائة رجل وأسر ألف رجل فباعهم نفوسهم وصالحه أهل نصيبين على أربعمائة ألف درهم‏.‏

وبلغ خبره ناصر الدولة بن حمدان وهو أمير ديار ربيعة فسيّر إليه جيشًا فقاتلوه فظفروا به وأسروه وسيّره ناتصر الدولة إلى بغداد‏.‏

  ذكر مخالفة جعفر بن أبي جعفر

كان جعفر بن أبي جعفر بن أبي داود مقيمًا بالخُتَّل واليًا عليها للسامانيّة فبدت منه أمور نُسبت بسببها إلى الإستعصاء فكوتب أبو عليّ أحمد بن محمّد بن المظفَّر بقصده فسار إليه وحاربه فقبض عليه وحمله إلى بخارى وذلك قبل مخالفة أبي زكرياء يحيى فلّما حُمل إلى بخارى حُبس فيها فلمْا خالف أبو زكرياء يحيى أخرجه من الحبس وصحبه ثمّ استأذنه في العود إلى ولاية الخُتَّل وجمْع الجيوش له بها فأذن له فسار إليها وأقام بها وتمسّك بطاعة السعيد نصر بن أحمد فصلح حاله وذلك سنة ثماني عشرة وثلاثمائة‏.‏

الخُتَّل بالخاء المعجمة والتاء فوقها نقطتان والخاء مضمومة والتاء مشدّدة مفتوحة‏.‏

  ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة شغب الفرسان وتهدّدوا بخلع الطاعة فأحضر المقتدر قوّادهم بين يديه ووعدهم الجميل وأن يطلق أرزاقهم في الشهر المقبل فسكنوا ثمّ شغب الرجّالة فأُطلقت وفيها خلع المقتدر على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش وأعطاه ولاية فارس وكَرْمَان وسِجِستان ومكران‏.‏

وفيها أيضًا خلع على ابنه أبي العبّاس وأقطعه بلاد الغرب ومصر والشام وجعل مؤنسًا المظفَّر يخلفه فيها‏.‏

وفيها صُرف ابنا رائق عن الشُّرطة وقُلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت‏.‏

وفيها وقعت فتنة بنَصِيبين بين أهل باب الروم والباب الشرقيّ واقتتلوا قتالًا شديدًا وأدخلوا إليهم قومًا من العرب والسواد فقُتل بينهم جماعة وأُحرقت المنازل والحوانيت ونُهبت الأموال ونزل بهم قافلة عظيمة تريد الشام فنهبوها‏.‏

وفيها توفّي يحيى بن محمّد بن صاعد البغداديُّ وكان عمره تسعين سنة وهو من فضلاء المحدّثين والقاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيُّ الفقيه الحنفيُّ وكان عالمًا بالأدب ونحو الكوفّيين وله شعر حسن‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

  ذكر تجدُّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر

وكان سببها أنّ محمّد بن ياقوت كان منحرفًا على الوزير سليمان ومائلًا إلى الحسين بن القاسم وكان مؤنس يميل إلى سليمان بسبب عليّ بن عيسى وثقتهم به وقوي أمر محمّد بن ياقوت وقُلّد مع الشُّرطة الحِسبة وضمّ إليه رجالًا فقوي بهم فعظم ذلك على مؤنس وسأل المقتدر صرف محمّد عن الحسبة وقال‏:‏ هذا شغل لا يجوز أن يتولاّه غير القضاة والعدول فأجابه المقتدر‏.‏

وجمع مؤنس إليه أصحابه فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمّد بن ياقوت وقيل لمؤنس‏:‏ إنّ محمّد بن ياقوت قد عزم على كبس دارك ليلًا ولم يزل به أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشَّمّاسيّة فضربوا مضاربهم هناك وطالب المقتدر بصرف ياقوت عن الحجبة وصرف ابنه عن الشُّرطة وإبعادهما عن الحضرة فأُخرجا إلى المدائن‏.‏

وقلّد المقتدر ياقوتًا أعمال فارس وكرمان وقلّد ابنه المظفَّر بن ياقوت أصبهان وقلّد أبا بكر محمّد بن ياقوت سِجِستان وتقلّد ابنا رائق إبراهيم ومحمّد مكان ياقوت وولده الحجبة والشُّرطة وأقام ياقوت بشِيراز مدّة‏.‏

وكان عليُّ بن خلف بن طياب ضامناَ أموال الضياع والخراج بها فتظافرا وتعاقدا وقطعا الحمل على المقتدر إلى أن ملك عليُّ بن بُوَيْه الديلميُّ بلاد فارس سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة‏.‏

ووزارة أبي القاسم الكلوذانيّ و في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان بن الحسن‏.‏

وكان سبب ذلك أن سليمان ضاقت الأموال عليه إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات ووقفت وظائف السلطان واتّصلت رقاع مَن يُرَشّح نفسه للوزارة بالسعاية به والضمان بالقيام بالوظائف وأرزاق الجند وغير ذلك فقبض عليه ونقله إلى داره‏.‏

وكان المقتدر كثير الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع مؤنس من ذلك وأشار بوزارة أبي القاسم الكلْوذانيّ فاضطر المقتدر إلى ذلك فاستوزره لثلاث بقين من رجب فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهَريْن وكانت وزارته غير متمكّنة أيضًا فإنّه كان عليُّ بن عيسى معه على الدواوين وسائر الأمور وأُفرد عليُّ بن عيسى عنه بالنظر في المظالم واستعمل على ديوان السواد غيره فانقطعت موادّ الوزير فإنّه كان يقيم مِن قبله من يشتري توقيعات أرزاق جماعة لا يمكنهم مفارقة ما هم عليه بصدده من الخدمة فكان يعطيهم نصف المبلغ وكذلك إدرارات الفقهاء وأرباب البيوت إلى غير ذلك‏.‏

وكان أبو بكر بن قرابة منتميًا إلى مُفلح الخادم فأوصله إلى المقتدر فذكر له أنّه يعرف وجوه مرافق الوزراء فاستعمله عليها ليصلحها للخليفة فسعى في تحصيل ذلك من العمّال والضُّمّان والتُّنّاء وغيرهم فأخلق بذلك الخلافة وفضح الديوان ووقفت أحوال الناس فإنّ الوزراء وأرباب الولايات لا يقومون بأشغال الرعايا والتعب معهم إلاّ لرفق يحصل لهم وليس لهم من الدين ما يحملهم على النظر في أحوالهم فإنّه بعيد منهم فإذا منعوا تلك المرافق تركوا الناس يضطربون ولا يجدون مَن يأخذ بأيديهم ولا يقضي حوائجهم فإنّي قد رأيتُ هذا عيانًا في زماننا هذا وفات به من المصالح العامّة والخاصّة ما لا يحصى‏.‏

  ذكر الحرب بين هارون وعسكر مرداويج

قد ذكرنا فيما تقدّم قتل أسفار وملك مرداويج وأنّه استولى على بلد الجبل والرَّيّ وغيرهما وأقبلت الدَّيلم إليه من كلّ ناحية لبذله وإحسانه إلى جنده فعظمت جيوشه وكثرت عساكره وكثر الخرج عليه فلم يكفه ما في يده ففرّق نوّابه في النواحي المجاورة له‏.‏

فكان مّمن سيّره إلى همَذان ابن أخت له في جيش كثير وكان بها أبو عبد الله محمّد بن خلف في عسكر الخليفة فتحاربوا حروبًا كثيرة وأعان أهل همذان عسكر الخليفة فظفروا بالديلم وقُتل ابن أخت مرداويج فسار مرداويج من الرَّيّ إلى همذان فلمّا سمع أصحاب الخليفة بمسيره انهزموا من همذان فجاء إلى همذان ونزل على باب الأسد فتحصّن منه أهلها فقاتلهم فظفر بهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وأحرق وسبى ثم رفع السيف عنهم وأمّن بقيتهم‏.‏

فأنفذ المقتدر هارونَ بن غريب الخال في عساكر كثيرة إلى محاربته فالتقوا بنواحي همذان فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم هارون وعسكر الخلية واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعها وما وراء همذان وسيّر قائدًا كبيرًا من أصحابه يُعرف بابن علاّن القزوينيّ إلى الدّينَور ففتحها بالسيف وقتل كثيرًا من أهلها وبلغت عساكره إلى نواحي حُلوان فغنمت ونهبت وقتلت وسبت الأولاد والنساء وعادوا إليه‏.‏

  ذكر ما فعله لشكري من المخالفة

كان لشكري الديلميُّ من أصحاب أسفار واستأمن إلى الخليفة فلمّا انهزم هارون بن غريب من مرداويج سار معه إلى قَرْمِيسين وأقام هارون بها واستمدّ المقتدر ليعاود محاربة مرداويج وسيّر هارون لشكري هذا إلى نهاوند لحمل مالٍ بها إليه فلمّا صار لشكري بنَهاوند ورأى غنى أهلها طمع فيهم وصادرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها في مدّة أُسبوع وجنّد بها جُندًا ثمّ مضى إلى أصبهان هاربًا من هارون في الجند الذين انضمّوا إليه في جُمادى وكان الوالي على أصبهان حينئذ أحمد بن كَيْغَلغ وذلك قبل استيلاء مرداويج عليها فخرج إليه أحمد فحاربه فانهزم أحمد هزيمة قبيحة وملك لشكري أصبهان ودخل أصحابه إليها فنزلوا في الدور والخانات وغيرها ولم يدخل لكري معهم ولّما انهزم أحمد نجا إلى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسًا وركب لشكري يطوف بسُور أصبهان من ظاهره فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل‏:‏ لا شكّ أنه من أصحاب أحمد ابن كَيْغَلغ فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم وكانوا عدّة يسيرة فلمّا قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقُتل لشكري قتله أحمد بن كَيْغَلغ ضربه بالسيف على رأسهن فقدّ المغفر والخّوذة ونزل السيف حتّى خالط دماغه فسقط ميّتًا‏.‏

وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين فلمّا قُتل لشكري انهزم مَن معه فدخلوا أصبهان وأعلموا أصحابهم فهربوا على وجوههم وتركوا أثقالهم وأكثر رحالهم ودخل أحمد إلى أصبهان وكان هذا قبل استيلاء مرداويج على أصبهان وكان هذا من الفتح الظريف وكان جزاؤه أن صُرف عن أصبهان ووليَ عليها المظفَّر بن ياقوت‏.‏

  ذكر ملك مرداويج أصبهان

ثمّ أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصبهان فملكوها واستولوا عليها وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف العِجليّ والبساتين فسار مرداويج إليها فنزلها وهو في أربعين ألفًا وقيل خمسين ألفًا وأرسل جمعًا آخر إلى الأهواز فاستولوا عليها وعلى خوزستان وجبوا أموال هذه البلاد والنواحي وقسمها في أصحابه وجمع منها الكثير فاذخره‏.‏

ثمّ إنّه أرسل إلى المقتدر رسولًا يقرّر على نفسه مالًا على هذه البلاد كلّها ونزل للمقتدر عن هَمذان وماه الكوفة فأجابه المقتدر إلى ذلك وقوطع على مائتَيْ ألف دينار كلّ سنة‏.‏

  ذكر عزل الكَلْوَذانيّ ووزارة الحسين بن القاسم

في هذه السنة عُزل أبو القاسم الكّلْوذانيُّ عن وزارة الخليفة ووزر الحسين ابن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب‏.‏

وكان سبب ذلك أنّه كان ببغداد إنسان يُعرف بالدانياليّ وكان زرّاقًا ذكيًّا محتالًا وكان يعتّق الكاغد ويكتب فيه بخطّة ما يشبه الخطّ العتيق ويذكر فيه إشارات ورموزًا يودعها أسماء أقوام من أرباب الدولة فيحصل له بذلك رفق كثير‏.‏

فمن جملة ما فعله أنّه وضع في جملة كتاب‏:‏ ميم ميم ميم يكون منه كذا وكذا وأحضره عند مفلح وقال‏:‏ هذا كناية عنك فإنّك مفلح مولى المقتدى وذكر له علامات تدلّ عليه فأغناه فتوصّل الحسين بن القاسم معه حتّى جعل اسمه في كتاب وضعه وعتّقه وذكر فيه علامة وجهه وما فيه من الآثار ويقول إنّه يزر للخليفة الثامن عشر من خلفاء بني العبّاس وتستقيم الأمور على يدَيْه ويقهر الأعادي وتتعمّر الدنيا في أيّامه وجعل هذا كلّه في جملة كتاب ذكر فيه حوادث قد وقعت وأشياء لم تقع بعد ونسب ذلك إلى دانيال وعتّق الكتاب وأخذه وقرأه على مفلح فلمّا رأى ذلك أخذ الكتاب وأحضره عنده المقتدر وقال له‏:‏ أتعرف في الكُتّاب من هو بهذه الصفة فقال‏:‏ ما أعرفه إلاّ الحسين بن القاسم فقال‏:‏ صدقت وإنّ قلبي ليميل إليه فإن جاءك منه رسول برقعة فاعرضها عليّ واكتم حاله ولا تطلع على أمره أحدًا‏.‏

وخرج مفلح إلى الدانياليّ فسأله‏:‏ هل تعرف أحدًا من الكتّاب بهذه الصفة فقال‏:‏ لا أعرف أحدًا قال‏:‏ فمن أين وصل إليك هذا الكتاب فقال‏:‏ من أبي وهو ورثه من آبائه وهو من ملاحم دانيال عليه السلام فأعاد ذلك على المقتدر فقبله فعرّف الدانياليُّ ذلك الحسين بن القاسم فلمّا أعلمه كتب رقعة إلى مفلح فأوصلها إلى المقتدر ووعده الجميل وأمره بطلب الوزارة وإصلاح مؤنس الخادم فكان ذلك من أعظم الأسباب في وزارته مع كثرة الكارهين له‏.‏

ثمّ اتفق أنّ الكَلْوذانيَّ عمل حِسْبةً بما يحتاج إليه من النفقات وعليها خطّ أصحاب الديوان فبقي محتاجًا إلى سبعمائة ألف دينار وعرضها على المقتدر وقال‏:‏ ليس لهذه جهة إلاّ ما

وكتب الحسين بن القاسم لّما بلغه ذلك يضمن جميع النفقات ولا يطالبه بشيء من بيت المال وضمن أنّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت المال فعُرضت رقعته على الكَلْوذانيّ فاستقال وأذن في وزارة الحسين ومضى الحسين إلى بُلَيق وضمن له مالًا ليصلح له قلب مؤنس ففعل فعُزل الكَلْوذانيُّ في رمضان وتولّى الحسين الوزارة لليلتَينْ بقيتا من رمضان أيضًا وكانت ولاية الكَلْوذانيّ شهرَيْن وثلاثة أيّام واختصّ بالحسين بنو البَرِيديّ وابنُ قَرابة وشرط أن لا يطلع معه عليّ بن عيسى فأُجيب إلى ذلك وشرع في إخراجه من بغداد فأُجيب إلى ذلك فأُخرج إلى الصافية‏.‏

  ذكر تأكّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر

في هذه السنة في ذي الحجّة تجدّدت الوحشة بين مؤنس والمقتدر حتى آل ذلك إلى قتل المقتدر‏.‏

وكان سببها ما ذكرنا أوّلًا في غير موضع فلمّا كان الآن بلغ مؤنسًا أنّ الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القوّاد في التدبير عليه فتنكّر له مؤنس وبلغ الحسين أنّ مؤنسًا قد تنكّر له وأنّه يريد أن يكبس داره ليلًا ويقبض عليه فتنقّل في عدة مواضع وكان لا يحضر داره إلاّ بُكرة ثمّ إنّه انتقل إلى داره الخلافة فطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته فأجاب إلى عزله ولم يصادره وأمر الحسين بلزوم بيته فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي في وزارته‏.‏

وأوقع الحسين عند المقتدر أنّ مؤنسًا يريد أخذ ولده أبي العبّاس وهو الراضي من داره بالمخرّم والمسير به إلى الشام والبيعة له فردّه المقتدر إلى دار الخلافة فعلم ذلك أبو العبّاس فلمّا أفضت الخلافة إليه فعل بالحسين ما نذكره‏.‏

وكتب الحسن إلى هارون وهو بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج ليتقدمه إلى بغداد وكتب إلى محمّد بن ياقوت وهو بالأهواز يأمره بالإسراع إلى بغداد فزاد استشعار مؤنس وصح عنده أنّ الحسين يسعى في التدبير عليه وسنذكر تمام أمره سنة عشرين وثلاثمائة‏.‏

  ذكر الحروب بين المسلمين والروم

في هذه السنة في ربيع الأوّل غزا ثمل والي طَرَسُوس بلاد الروم فعبر نهرًا ونزل عليهم ثلجٌ إلى صدور الخيل وأتاهم جمع كثير من الروم فواقعوهم فنصر الله المسلمين فقتلوا من الروم ستّمائة وأسروا نحوًا من ثلاثة آلاف وغنموا من الذهب والفضّة والديباج وغيره شيئًا كثيرًا‏.‏

وفيها في رجب عاد ثمل إلى طَرَسُوس ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس

والراجل فبلغوا عَمّورية وكان قد تجمّع إليها كثير من الروم ففارقوها لّما سمعوا خبر ثمل ودخلها المسلمون فوجدوا فيها من الأمتعة والطعام شيئًا فأخذوه وأحرقوا ما كانوا عمّروه منها وأوغلوا في بلاد الروم ينهبون ويقتلون ويخرّبون حتى بلغوا أنقِرَة وهي التي تسمّى الآن أنكورية وعادوا سالمين لم يلقوا كيدًا فبلغت قيمة السبي مائة ألف دينار وستّة وثلاثين ألف دينار وكان وصولهم إلى طَرَسُوس آخر رمضان‏.‏

وفيها كاتب ابن الدَّيرانيّ وغيره من الأرمن وهم بأطراف أرمينية الروم وحثّوهم على قصد بلاد الإسلام ووعدوهم النصرة فسارت الروم في خلق كثير فخرّبوا بَزكرى وبلاد خلاط وما جاورها وقُتل من المسلمين خلق كثير وأسروا كثيرًا منهم فبلغ خبرهم مُفلحًا غلام يوسف بن أبي الساج وهو والي أذربيجان فسار في عسكر كبير وتبعه كثير من المتطوّعة إلى أرمينية فوصلها في رمضان وقصد بلد ابن الدَّيرانيّ ومن وافقه لحربه وقتل أهله ونهب أموالهم وتحصّن ابن الدًَّيرانيّ بقلعة له وبالغ الناس في كثرة القتلى من الأرمن حتّى قيل إنّهم كانوا مائة ألف قتيل والله أعلم‏.‏

وسارت عساكر الروم إلى سُمَيساط فحصروها فاستصرخ أهلها بسعيد بن حَمدان وكان المقتدر قد ولاّه الموصل وديار ربيعة وشرط عليه غزو الروم وأن يستنقذ مَلَطْية منهم وكان أهلها قد ضعفوا فصالحوا الروم وسلّموا مفاتيح البلد إليهم فحكموا على المسلمين فلمّا جاء رسول أهل سُمَيساط إلى سعيد بن حمدان تجهّز وسار إليهم مسرعًا فوصل وقد كاد الروم يفتحونها فلمّا قاربهم هربوا منه وسار منها إلى مَلَطية وبها جمع من الروم ومن عسكر مليح الأرمنيّ ومعهم بنْيّ بن نفيس صاحب المقتدر وكان قد تنصّر وهو مع الروم فلمّا أحسّوا بإقبال سعيد خرجوا منها وخافوا أن يأتيهم سعيد في عسكره من خارج المدينة ويثور أهلها بهم فيهلكوا ففارقوها‏.‏

ودخلها سعيد ثمّ استخلف عليها أميرًا وعاد عنها فدخل بلد الروم غازيًا في شوّال وقدّم بين يديه سَريّتَيْن فقتلتا من الروم خلقًا كثيرًا قبل دخوله إليها‏.‏

  ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة في شوّال جاء إلى تكريت سيل كبير من المطر نزل في البرّ فغرق منها أربعمائة دار ودكّان وارتفع الماء في أسواقها أربعة عشر شبرًا وغرق خلق كثير من الناس ودُفن المسلمون والنصارى مجتمعين لا يُعرف بعضهم من بعض‏.‏

وفيها هاجت بالموصل ريح شديد فيها حمرة شديدة ثمّ اسودّت حتّى لا يعرف الإنسان وفيها توفّي أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخيُّ في شعبان وهو من متكلّمي المعتزلة البغداديّين‏.‏

  ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة

  ذكر مسير مؤنس إلى الموصل

في هذه السنة في المحرّم سار مؤنس المظفَّر إلى الموصل مغاضبًا للمقتدر‏.‏

وسبب مسيره أنّه لّما صحّ عنده إرسال الوزير الحسين بن القاسم إلى هارون ابن غريب ومحمّد بن ياقوت يستحضرهما زاد استيحاشه ثم سمع بأنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة في دار الخليفة وقد اتّفق فيهم وأنَّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد فأظهر الغضب وسار نحو الموصل ووجّه خادمه بُشرى برسالة إلى المقتدر فسأله الحسين عن الرسالة فقال‏:‏ لا أذكرها إلاّ لأمير المؤمنين فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر ما معه من الرسالة للوزرن فامتنع وقال‏:‏ ما أمرني صاحبي بهذا فسبّه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار وأخذ خطّه بها وحبسه ونهب داره‏.‏

فلمّا بلغ مؤنسًا ما جرى على خادمه وهو ينتظر أن يطيّب المقتدر قلبه ويعيده فلمّا علم ذلك سار نحو الموصل ومعه جميع قُوّاده فكتب الحسين إلى القوّاد والغلمان يأمرهم بالرجوع إلى بغداد فعاد جماعة وسار مؤنس نحو الموصل في أصحابه ومماليكه ومعه من الساجيّة ثماني مائة رجل وتقدّم الوزير بقبض إقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك مَن معه وضرب اسمه على الدينار والدرهم وتمكّن من الوزارة وولّى وعزل‏.‏

وكان فيمن تولّى أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريديُّ ولاّه الوزر البصرة وجميع أعمالها بمبلغ لا يفي بالنفقات على البصرة وما يتعلّق بها بل فضل لأبي يوسف مقدار ثلاثين ألف دينار أحاله الوزير بها فلّما علم ذلك الفضل بن جعفر بن محمّد بن الفرات استدرك على أبي يوسف وأظهر له الغلط في الضمان وأنّه لا يمضيه فأجاب إلى أن يقوم بنفقات البصرة ويحمل إلى بيت المال كلّ سنة ثمانين ألف دينار وانتهى ذلك إلى المقتدر فحسُن موقعه عنده فقصده الوزير فاستتر وسعى بالوزير إلى المقتدر إلى أن أفسد حاله‏.‏

  ذكر عزل الحسين عن الوزارة

وفيها عُزل الحسين بن القاسم عن الوزارة‏.‏

وسبب ذلك أنّه ضاقت عليه الأموال وكثرت الإخراجات فاستسلف

في هذه السنة جملة وافرة أخرجها في سنة تسع عشرة فأنهى هارون بن غريب ذلك إلى المقتدر فرتّب معه الخصيبيّ فلمّا تولّى معه نظر في أعماله فرآه قد عمل حِسبة إلى المقتدر ليس فيها عليه وجه وموّه وأظهر ذلك للمقتدر فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال فحضروا واعترفوا بصدق الخصيبيّ بذلك وقابلوا الوزير بذلك فقُبض عليه في شهر ربيع الآخر وكانت وزارته سبعة أشهر واستوزر المقتدر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلّم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءتهِ‏.‏

  ذكر استيلاء مؤنس على الموصل

قد ذكرنا مسير مؤنس إلى الموصل فلمّا سمع الحسين الوزير بمسيره كتب إلى سعيد وداود ابنَيْ حمدان وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان يأمرهم بمحاربة مؤنس وصدّه عن الموصل‏.‏

وكان مؤنس كتب في طريقه إلى رؤساء العرب يستدعيهم ويبذل لهم الأموال والخِلع ويقول لهم‏:‏ إنّ الخليفة قد ولاّه الموصل وديار ربيعة‏.‏

واجتمع بنو حمدان على محاربة مؤنس إلاّ داود بن حمدان فإنّه امتنع من ذلك لإحسان مؤنس إليه فإنّه كان قد أخذه بعد أبيه وربّاه في حجره أحسن إليه إحسانًا عظيمًا فلمّا امتنع من محاربته لم يزل به إخوته حتّى وافقهم على ذلك وذكروا له إساءة الحسين وأبي الهيجاء ابنَيْ حمدان إلى المقتدر مرّةً بعد مرّة وأنّهم يريدون أن يغسلوا تلك السيّئة ولّما أجابهم قال لهم‏:‏ والله إنّكم لتحملونني على البغي وكفران الإحسان وما آمن أن يجيئني سهم عائر فيقع في نحري فيقتلني فلمّا التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله‏.‏

وكان مؤنس إذا قيل له‏:‏ إنّ داود عازم على قتالك ينكره ويقول‏:‏ كيف يقاتلني وقد أخذتُه طفلًا وربّيته في حجري‏!‏ ولّما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفًا والتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدان ولم يُقتل منهم غير داود وكان يلقّب بالمجفجف وفيه يقول بعض الشعراء وقد هجا أميرًا‏:‏ لو كنتَ في ألف ألف كلّهم بطلٌ مِثل المُجَفْجَفِ داود بن حمدانِ وتحتكَ الريحُ تجري حيثُ تأمرُها وفي يمينك سيفَ غيرُ خَوَّان لكنتَ أوّل فَرّارٍ إلى عَدَنٍ إذا تحرّك سيفٌ من خُراسانِ وكان داود هذا من أشجع الناس ودخل مؤنس الموصل ثالث صفر واستولى على أموال بني حمدان وديارهم فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر من أصناف الناس لإحسانه الذي كان إليهم وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه وأقام بالموصل تسعة